قصة : حسام الدين فكري
قريتنا لا تشبه غيرها من القرى، فالليل فيها له أنياب تسيل منها الحياة، والتوجّس
يأكل عظام كل من يسير ليلاً بعد أذان العشاء..خمس ليالٍ متوالية شق فيها قلب
السكون صياح النادبات، كل الذاهبين اختطفهم الموت في قلب الليل، لاشيء يربط بينهم
إلا التجول تحت أستار الظلام، الموت يترصد في كل زوايا القرية، لم يفلت منه أحد،
حتى الذين ساروا معاً في مجموعات، فوجئوا بسقوط أحدهم صريعا من بينهم..يأتي طبيب
القرية مهرولاً ثم يجده قد فارق الحياة، فيشخص حالته "هبوط حاد مفاجئ في
الدورة الدموية"، نسأله عن السبب فيقول إنها إرادة الله "عمره
كده"، ونعم بالله، لكننا لم نفهم شيئاً..فمنهم من كان شابا يافعا في الثلاثين
من عمره بالكاد، كانت الصحة تنضح على وجهه وجسده الرياضي، لا يدخن ولايشرب الخمر،
فما الذي يجعل شابا كهذا يسقط فجاة بلا حراك؟..يحاول الطبيب أن يبل ريقنا بشيء، فيقول
لنا :"ربما تعرّض لإنفعال مفاجيء"، نعود لنسأل صديقه الوحيد الذي كان
يرافقه، فيؤكد لنا أنهما كانا يتسامران ويضحكان، لم يغضبه شيء ولم ينفعل لشيء،
كانت كلماته الأخيرة مفعمة بحب الحياة، تحدث عن خطيبته التي يحبها وكيف أوشك على
الانتهاء من تجهيز "عش الزوجية"، لم يتبق له سوى "أنتريه"
وعده النجار الذي يصنعه أن يتسلمه بعد يومين، فاتفق الفقيد بالفعل مع سائق سيارة
نقل وأعطاه "العربون" أيضاً، لنقل أثاثه إلى منزله الجديد، لكن القدر لم
يمهله حتى يضع فيه قدميه.
هكذا صرنا نشيّع في صباح كل يوم أحد ابناء القرية، ثم نذهب في المساء إلى
سرادق العزاء..بعدها نجلس في المقهى والحزن يقرض كلماتنا، فتخرج موجوعة بألم
الفراق..كل الذين رحلوا كنا نعرفهم، منهم الصديق والقريب والجار، حتى السيدة التي
رحلت كانت والدة أحد أصدقائنا، كأن الموت يحاصرنا من كل اتجاه، ويختطف منا أعزاءنا
في قلب الليل.
نُحاول أن نتجاوز أحزاننا بالإلهاء، فنندمج في "ألعاب المقاهي"..شيئاً
فشيئاً يطوف النسيان بردائه السحري على رءوسنا جميعاً، فتنحسر مشاعر الحزن وتتعالي
صيحات "اللعب"...كنا أربعة أصدقاء في المقهى الكبير المُطلّ على شاطىء
الترعة، جلسنا بعد صلاة العشاء مباشرة على منضدتين متجاورتين، إثنان منا يلعبان
"الطاولة" وإثنان يلعبان "الدومينو"، حمى الشباب تجري في
دمائنا، انفعالاتنا صاخبة، وأصواتنا الزاعقة تجذب أسماع كل من حولنا...
_ هات "الدورجي" ياحلو..إنزل بيه قبل مايتزنق في إيدك!
صاح "سعد" برفيقه في الدومينو، كان اسمه "منير
الحوّاش" لكننا نناديه "حوّاش"..سحب الأخير نفساً من شيشته، ثم
التقط ورقة من ورقه المرصوص أمامه على طرف المنضدة – يُطلق عليها المحترفون
"أوراق الدومينو" رغم إنها من الخزف وليست من الورق! – وسرعان ما ألصقها
بورقة (4-2)على المنضدة، وهو يُعلق كأنه يرفع راية "المقاومة الشعبية"
للاحتلال :
_لا..لسه عليها بدري..عندي ورق تاني أحسن..شوف دي كده!
نظر "سعد" إلى الورقة التي وضعها "حوّاش" فبدا احتقان
خفيف تحت عينيه، لكنه ابتسم بشيء من اللامبالاة وهو يقول لصديقه ساخراً:
_ حلوة ياواد..بس تعرف تكمّل على كده؟!
_ أيوه طبعاً
_ ورّيني شطارتك
أتبع قوله بالتقاط إحدى ورقه ثم وضعها برفق على المنضدة ودقّ عليها بيده،
كأنه يلصقها بالمنضدة:
_ طب وهتعمل إيه في دي بقى!
أدرك "حوّاش" أن "الدور" يهرب منه، لكنه تمكن من إخفاء
انفعاله الداخلي، ونظر إلى ورقه باحثاً عن ورقة جيدة يلعب بها، فيما وجد
"سعد" يقول له كأنه يرى ورقه من بعيد :
_ إنزل بالدورجي يافالح..مفيش لعبة غيرها!
اضطر "حوّاش" بوجه بدأ يحتقن بالفعل، أن يضع الورقة التي أشار
إليها صديقه، الذي انفجر في ضحكة عالية، كأنه وضع "الدور" في جيبه بهذه
الحركة...
_ إنت فتحت الخشب يافالح..بقى فيه حد عاقل يعمل كده ؟!
كان صوتي هذه المرة يخترق سحب الدخان التي تحيط بنا؛ ليصل إلى "برهومي"
رفيقي في "الطاولة"، اسمه "خالد البرهومي" لكننا نناديه
"برهومي"..أخذ صديقي يقرض أظافره بحركة لا شعورية، ثم هتف بي كأنه
يلومني:
_ ماهو الزهر اللي عمل كده..مش أنا..وبعدين يعني هو فيه كده..كل ماترمي
رمية تطلع "دشّ" أو "دبش"..ده حظ عوالم ياعم..هو أنا بلاعب رقّاصة
ولاّ إيه؟!!
ضحكنا جميعاً، كانت لهجته أساسا إذا قال أي شيء تدفع الابتسام إلى وجوهنا،
قلت له أنكشه :
_ إنت اللي تعبان في اللعب..مفيش مستوى..أنا كل مرة بغلبك!
راح يغمغم بلغة فضائية لم نفهم منها شيئاً، فيما قال لي "حوّاش"
:
_ يا أخي بالراحة على الوله..مش كده!
التفت إليه "سعد" وقال له مُتهكماً :
_ ياخويا خلّيك في نفسك..يعني انت اللي بتكسب يعني!
_ طب خد بالك من دي كده!
وضع "حوّاش" ورقه منع بها "سعد" من وضع أي ورقة جديدة،
فأنهى هو ورقه واقتنص الدور!..كاد "سعد" يجذب شعر رأسه حنقاً، كان من
أمهر أهل قريتنا في "الدومينو" بالذات، لا يحب أن يهزمه أحد أبداً..نظر
إلى رفيقه بابتسامة قصيرة وهنأه باقتضاب:
_ مبروك عليك.. إحنا كده متعادلين..حبايب!
سحب نفساً عميقاً من شيشته، مطّ شفتيه كأنما يتذوقه، قبل أن يُخرجه كثيفاً
من فمه وأنفه معاً!..ثم هرش رأسه ودار بنظره علينا جميعاً، وهو يقول لنا فجأة:
_ بقولكم إيه..حد فيكم لا حظ حاجة؟!
_ حاجة بخصوص إيه؟
_ بخصوص الناس اللي ماتت الأيام اللي فاتت دي!
انتبهنا له، تحولنا إلى آذان وعيون، تركنا كل مافي أيدينا حتى
الشيشة..لكننا لم نكن نفهم مايعنيه بسؤاله فلم يعلق أحدنا بشيء، فيما استطرد هو
يقول :
_ أنا لاحظت إن الموت خطفهم كلهم..في وقت واحد تقريباً..بعد صلاة العِشا
بحوالي ساعتين أو ساعتين ونص بالكتير
_ قصدك إيه؟!
_ قصدي إن السلسلة ماشية كده..وأي واحد هيتحرك في القرية بعد العِشا..هيبقى
في خطر!
_ عندك حق..وفيه كتير في القرية فعلاً..بعد تالت وفاة..مابيطلعوش من بيوتهم
بعد العِشا
صاح "برهومي":
_ على كده بقى لازم نقوم على طول..إحنا عدينّا العِشا بأكتر من ساعة دلوقتي
سرت همهمات بيننا، لم يلبث "حوّاش" أن قطعها، عندما لفت انتباهنا
إلى أمر آخر بقوله:
_ أنا كمان لاحظت حاجة تانية..كل اللي ماتوا دول..كانوا أحسن ناس في قريتنا..عندكم
مثلاً الواد "أبانوب روماني" صاحبنا..ده كان من أطيب ماشفت في
حياتي..عيل غلبان مالوش في حاجة..كان لسه بيدرس في الجامعة، عمره عشرين سنة..الشهر
اللي فات كنت راجع أنا وأختي "شوقية" من المدينة متأخرين، وقفنا على
الطريق السريع عند مدخل البلد، مفيش أي "توكتوك" نروّح بيه..أول ماشافنا
"أبانوب" واقفين كده، اتصل على طول بواحد يعرفه عنده
"توكتوك"، وفضل قاعد معانا لغاية ما وصل وركبنا معاه..كان واد مجدعة صحيح..الله
يرحمه
مسح "سعد" بأصبعه عبرة ترقرقت في عينه، قبل أن يقول :
_ وعندك كمان الخُضري "فهيم الروبيني"..كان أحسن بيّاع خضار
وفاكهة في قريتنا كلها..وشّه السمح كان بيخلي الزباين تيجي لغاية عنده كأنها
متنومه مغناطيسياً..وأسعاره دايماً أقل من كل البياعين في القرية..كان بيراعي ربنا
ومايغليش أبداً زي غيره..الله يرحمه ويحسن إليه
قُلت لهم بدوري:
_ والست "زينات" أم صاحبنا "صفوت"..كانت أطيب واحدة في
القرية كلها، أمي كانت تعرفها كويس، بتقول لي عمر "العِيبة" ماطلعت
منها..دايماً في حالها..وعلى طول بتعمل خير كتير..إنتوا عارفين إنها هي اللي جمعت
الفلوس من ستات القرية لما كان الجامع الكبير بيتبني، ربنا يرحمها ويجعله في ميزان
حسناتها
قال "برهومي" بصوت يخنقه التأثر:
_ والبنت "أشرقت" بنت "سويلم" النجار..طفلة بريئة
عندها تسع سنين، أمها بعتتها تجيب حاجات بعد العِشا من كشك عم "جابر"
اللي ناحية مخزن الدقيق..قدام الكشك بالظبط وقعت فجأة من طولها..عم
"جابر" جري عليها والناس اللي قاعدين على القهوة في وش الكشك كلهم
اتجمعوا..بس لقوا السر الإلهي طلع، الله يرحمها..أكيد دي دلوقتي زهرة من زهور
الجنة..من ساعتها عم "جابر" بيصلي العشا ويقفل الكشك على طول!
انحدرت عبرتان على وجنتيّ "برهومي"، وهو يقول بصوت متهدج:
_ والعريس..ياعيني على العريس اللي مالحقش يدخل دنيا.. "أسامة
سالم" صاحبنا..كان نسمة ماشية على الأرض..أنا عمري ماقابلت حد في أخلاقه
وتربيته..ابن أصول صحيح..الموت خطفه قبل مايدخل بيته الجديد..الله يرحمك ياصاحبي
ويحسن إليك
ران الصمت علينا جميعاً، كأننا أدركنا لتونا أن الموت قد اختطف من بيننا أفضل
مافينا، حتى قطعه "برهومي" قائلاً :
_ معني كده بقى..إن الموت كان "بيغربل" القرية..ياخد منها
الكويسين بس..ويسيب الوحشين!
_ واضح إن الحكاية كده!
علّق "حوّاش" مازحاً:
_ طب كده إحنا نطّمن على نفسنا..ونتمشى في القرية براحتنا بعد العِشا..ماهو
أكيد إحنا من الوحشين!
تصايحنا ضاحكين، ثم أخذنا نصافح بعضنا في عبث مجنون..كُنّا في موجة صاخبة
من نزق الشباب جرفتنا في طريقها، فلم نعد نبالي بالموت الذي يترصدنا في زوايا
القرية..قررنا أن نُطيل إقامتنا بعض الوقت بالمقهى فواصلنا اللعب نحو ساعة
أخرى..هذه المرة فاز "سعد" في "التطبيق" – وهو يعني دوراً
فاصلاً يحدد الفائز في حالة التعادل- بينما نجح "برهومي" في اقتناص
"دور طاولة" منّي، وقام يرقص بالشيشة كأنه في حفل زفاف أخيه!..ثم
اكتشفنا أن المقهى قد خلا تماماً علينا، بعد أن فرّ كل رواده الآخرين!..فقمنا
بدورنا وتهيأنا للانصراف.
كان للمقهى ثلاثة عمال في ورديته المسائية، أحدهم يصنع المشروبات، والثاني
يقدمها والثالث يرصّ الشيشة..وعندما كنا ندفع حسابنا، سألتُ أحدهم بدافع الفضول :
_ إنتوا هتباتوا في القهوة..مش كده!
أومأ لي برأسه موافقاً، فغمزتُ له غمزة سريعة كأنني أقول له :" أنا
كده فهمت!"..فقد أدركتُ حينها لمَ تركونا في المقهى حتى ذلك الوقت، فلم يكن
أحدهم ليغامر بإلقاء نفسه في قلب ليل..مُعبّق برائحة الفناء!.
**
سِرنا نتضاحك في الطريق الترابي الممتد بموازاة الترعة، نشعر في داخلنا أن
الموت يئز فوق رءوسنا لكننا نحاول أن نتناسى..أصواتنا الصاخبة تمزق سكون الليل،
ولاشيء يتحرك في القرية إلا نحنُ والكلاب والقطط!..أخذتُ أنا و"برهومي"
نتمازح مزاحاً ثقيلاً، فيُمسك أحدنا بجلباب الآخر ويدفعه نحو الترعة، ثم يجذبه من
جديد قبل أن يسقط..اقتربت منا فرقة من الكلاب الضالة، راحت تنبح بقوة كأنها تزجرنا
عن اقتحام سيطرتها على طرقات القرية الخالية..كُنّا نعرف أنها لن تهاجمنا، فالكلاب
الضالة لا تهاجم أحداً إلا إذا استثارها..لم تلبث أن حدجتنا بنظرات عاتبة، ثم اتخذت
طريقها بعيداً عنّا، إلا واحداً منها ظل بضع لحظات يحّدق فينا قبل أن يلحق
برفقائه!.
قلتُ لبرهومي مازحاً :
_ الكلب ده كان بيبصّ لك أوي..شكله يعرفك ياوله!
_ لا ياخويا..ده كانت عينيه عليك إنت!
رحنا نتجادل ونتدافع فيما كان "سعد" و"حواّش"
يتحادثان..ثم لاحظ "حوّاش" أن رفيقه بدأ يترنّح في مشيته، فقال له
متوجساً :
_ مالك ياصاحبي؟!
_ حاسس إن راسي بتدور
_ شكلك تقّلت في الشيشة..إنت شربت كام حجر؟
ردّ عليه بإبتسامة واهنة:
_ مش عارف..أنا كنت بقطّعك في الدومنة..وماخدتش بالي شربت قد ايه!
دفعه "حوّاش" في كتفه مداعباً، كانت دفعة بسيطة على سبيل المزاح،
إلا أنها جعلته يفترش الأرض في ثانية واحدة!..انخلعت قلوبنا عندما سقط هكذا فجأة
من بيننا، ثم قفزت من صدورنا عندما وجدناه لا يتحرك..أسرع "برهومي" ينكفىء
عليه وأخذ يهزّه وهو يهتف به :
_ قوم ياسعد..قوم ياسعد!
وضع أذنه على قلبه حتى يتسّمع نبضه فلم يسمع شيئاً..رفع ذراعه ثم أفلتها
فسقطت كالجثة إلى جوار جسده..قال لنا بوجه مُحتقن وصوت مُختنق:
_ سعد راح يارجالة!
لم نعرف ماذا نفعل، حملناه سوياً وأرحنا جسده على بقعة ترابية مرشوشة
بالماء أمام أقرب دار لنا، كانت دار عم "عوني" صاحب مطعم "الفول
والطعمية" الوحيد بالقرية، أخذنا نناديه بأصوات عالية يتردد صداها فوق هامات
البيوت الهاجعة..خرج لنا بعينين ناعستين فقصصنا عليه ماجرى، أدخلنا بسرعة فوضعنا
جسد "سعد" على "مصطبة" في فناء الدار..أشار
"برهومي" إلى الجسد المُسجّى أمامنا، وقال لعم "عوني" بكلمات
يعتصرها الأسى:
_ الموت شكله خد ضحيته النهارده!
عبرت سحابة حزينة على وجه الرجل ومصمص شفتيه تأثراً، قبل أن يأمر أحد
أبنائه بأن يتصل بطبيب القرية..أخذنا نفرك أيادينا بحركة لاشعورية ونحن نهمهم
بكلمات غير مفهومة، لا تكاد تنتظم في جملة مفيدة واحدة..وجوهنا تعلوها صفرة، زادت
اصفراراً عندما انعكس عليها ضوء اللمبة الوحيدة المعلقة فوق واجهة دارعم
"عوني"..حانت التفاتة من "حوّاش" إلى وجه "سعد"،
فقال لنا مُندهشاً وهو يُلفت انتباهنا إليه:
_ بُصّوا ياجماعة!
نظرنا إلى "سعد" فارتفعت حواجبنا حين وجدنا ابتسامة مُعلقة بين
شفتيه..راح "حوّاش" يحوقل ويسترجع، ثم أضاف قائلاً:
_
الله يرحمك ياصاحبي..كانت الضحكة على طول بتنّور وشّك..والقعدة معاك تبسط القلب
الحزين..حتى لما تيجي تفارقنا..تموت كده مبتسم!
مضت بنا الدقائق ثقيلة على قلوبنا، حتى جاءنا الطبيب مُهرولاً..انكبّ من
فوره على جسد "سعد" يفحصه، وضع أصابعه على وريد عنقه، ثم أخرج سماعته
الطبية ليتأكد من نبضه، وسرعان مارفع رأسه إلينا قائلاً:
_ اتطّمنوا ياشباب..هو نبضه ضعيف..بس عايش والحمد لله
أخذ الطبيب يضربه على صدغيه ضربات خفيفة متوالية وهو يحرّك وجهه بين كفيه،
ففتح "سعد"عينيه وبدأ يسعل بشدة..فيما أخذنا جميعاً نلهج بالشكر لله،
وارتسمت ابتسامات حيّة على وجوهنا ونحن نتصافح ونحتضن بعضنا مُهنئين بالنجاة،
كأنما كُنّا في سفينة كادت أن تغرق لولا عناية الله.
ألقى إلينا "سعد" نظرة ذاهلة وهو يسألنا :
_ هو فيه إيه؟!
روينا له ماجرى، فقصّ هو علينا ما أثار تعجبنا للغاية..قال "سعد"
بصوت واهن:
_ أول ماحسّيت بروحي بتتسحب.. دارت حاجات كتير قُدام عيني..ُشفت حياتي اللي
فاتت كلها..كُنت قريب جداً من الموت فعلاً..وبعدين لقيت نفسي في صحرا واسعة كلها
صخور مدببة..الجو فيها يخنق النفس..ريح سخنة بتلسع وشي..ريقي ناشف ونفسي في بق
مية..ودبّان بالكوم بيطير حواليا..قعدت أتلفت زي المجنون..نفسي أشوف أي حد..ساعتها
بقى شفت أوضة واسعة باينة من بعيد..مفيش غيرها في الصحرا كلها..كأنها طلعت من
القمقم فجأة..ماكنتش شايف في البداية إيه اللي جواها..بس الريح كانت شديدة جداً..فضلت
تدحرج فيا لغاية مابقيت قريب جداً من الأوضة دي..كان فيها إضاءة فضية ناعمة – رغم
إننا بالنهار!- وزرع كتير أوي، اللون الأخضر في كل حتة، وهواها يُردّ الروح..كأنها
مكيفة أو فيها مراوح كتير..أو تقنية تانية أعلى من كده..هتقولوا عرفت منين..أقول
لكم...
جرع بعض الماء من زجاجة جاءه بها ابن عم "عوني"، ثم واصل:
_ أصل الناس اللي فيها كانت هدومهم بتطير وهمه طايرين في الهوا..وكلهم
لابسين هدوم بيضاء نقية وقلوبهم بتنبض فوق هدومهم..حاجة فوق الخيال!..ومش هتصدقوا
مين اللي فيها أصلاً..كل أهلنا وأصحابنا اللي ماتوا في الأيام اللي فاتت.. ملامحهم
كانت باهتة بس كنت عارفهم كويس..ومابقتش عارف هو أنا لسه حيّ ولا ميت..إنما كنت
عارف بس إني لازم أطلع من الصحرا دي..قعدت أشاورلهم بإيديا الاتنين..أول ما انتبهوا
ليّا مدّوا كلهم دراعاتهم في وقت واحد كأنهم بيسحبوني..قعدت أتسحب في نعومة غريبة زي
ما أكون ماشي على المية..ولما قرّبت خلاص أدخل معاهم..لقيتكم فوقتوني..ياولاد
الإيه!!
رد عليه "برهومي" مُداعباً :
_ إحنا غلطانين ياسيدي..كنا نسيبك تموت أحسن!
وعلّق عم "عوني":
_ لو على كلامه ياجدعان..يبقى كنا فعلاً نسيبه يموت أحسن..بس كنا بقى هنعرف
منين الحاجات الحلوة اللي هو بس شايفها دي ؟!
قال له "حوّاش" بابتسامة واسعة :
_ أقول لك على حل بسيط..أنا قبل كده خبطتك واحدة في كتفك..خلتّك بين الحياة
والموت..المرة دي أخبطك خبطتين جامدين..فتروح على الأوضة الروعة دي على طول..من
غير ماتمر بالصحرا أصلاً!!
شخَصَ "سعد" بعينيه وغمغم في اقتضاب :
_ ياريت!
ثم أردف يقول له :
_ على فكرة..عجبتني أوى الجملة اللي قلتها عني..أنا كنت سامعك..بس مش قادر
أتكلم
_ أهلا بيك ياصاحبي في الدنيا..تاني!
قال له ساخراً بمرح :
_ مالك بترّحب بيّا كده..كأنك عازمني على دار أهلك!!
...وانطلقت ضحكاتنا جميعاً إلى عنان السماء!
**
كانت نجاة "سعد" من أنياب الموت في تلك الليلة، بمثابة "الحلقة
المكسورة" في سلسلة "العرض المستمر"، الذي فرض نفسه خمس ليالٍ
متوالية على طرقات القرية..فقد كفت أصوات النادبات عن تمزيق سكون الليل، بعد أن
مضت بضع ليال تالية دون أن يختطف الموت واحداً منا..ولم نعد نسمعها إلا على فترات
متباعدة، كمعدل طبيعي لأي قرية في بلدنا..ولولا أن ذلك حدث، لاختفت قريتنا إلى
الأبد – في سنوات قلائل – من خريطة القطر المصري!.
تعليقات
إرسال تعليق