قصة قصيرة - حسام الدين فكري
دقّات آلة الدرامز الصاخبة هتكت سكون الليل، وانطلق
بين ثناياها صوت الشاب يغني مع فرقته المؤلفة من خمسة عازفين، اصطفوا يعزفون خلفه،
على جانب الطريق الدولي السريع !
كان صوته الشجي يلمع كالذهب مع وقع أوتار
الجيتار الحالم، الذي يتلاعب به زميله في الفرقة بمهارة فائقة، وكانوا جميعاَ
زملاءَ في جامعة واحدة، جمع بينهم الشغف بالموسيقى والغناء، فكونوا فرقة موسيقية
أطلقوا عليها "قلب الليل".
قدمت الفرقة عدة عروض ناجحة على مسرح الجامعة،
وازداد عدد متابعيها شيئاَ فشيئاَ حتى وصل على صفحة "الفيسبوك" الخاصة
بالفرقة إلى بضعة آلاف، فانفتح أمامهم المجال لتقديم عروض أخرى خارج الجامعة..في
تلك الليلة، كانوا يتهيأون لتقديم فقرة في حفل أشهر مطرب في مصر، في أحد المنتجعات
السياحية.
فرصة جاءتهم من السماء، ألهبت حماسهم وأوقدت
مشاعل مواهبهم، فكانوا يتبارون في بذل أقصى طاقاتهم، كل منهم يحتضن آلته التي يعزف
عليها، كأنما يحنو على طفله الرضيع، والسيارات تمر بهم في عمق الليل، فتخرج منها
أيادٍ كثيرة وأصواتٍ أكثر، تحييهم على غنائهم وموسيقاهم التي مسحت رهبة الليل بالأنغام،
وملأته بهجة لا تصفها كلمات !.
وبينما هم في اندماجهم الفني العميق، انطلق
صوت أحدهم بأطنان من الذعر : " اقفزوا..اقفزواااا ! "..فلما أفاقت
أعينهم التي كانت تنظر إلى الطريق بلا تركيز، أدركوا أن ثمة سيارة نقل ضخمة تندفع
بسرعة هائلة نحوهم، وفي ثوانٍ معدودة قفزوا جميعاَ السور القصير المجاور لهم
وسقطوا على الأرض الترابية التي تليه، فيما كنست سيارة النقل آلاتهم الموسيقية
كلها، وواصلت اندفاعها المحموم حتى اصطدمت بسيارة زميلهم التي جاءوا بها، وأمعنت
في تقدمها الأخرق فاصطدمت بسور الطريق وانقلبت على أحد جانبيها، ثم زحفت على هذه
الهيئة وهي تدفع السيارة الصغيرة أمامها، ولم تمض سوى لحظات قلائل حتى انفجرت
سيارة النقل الضخمة بدوي هائل كأنه هدير المدافع !.
ألجمتهم المفاجأة فلم يجد أحدهم لسانه لينطق
بشيء، كان الدخان الكثيف المتصاعد إلى عنان السماء قد حجب وجه القمر تماماَ، وألقى
في قلوبهم طبقات من الظلام، تراكمت فوق بعضها بسرعة حتى كادت تسحب أنفاسهم، فقاموا
يتساندون على بعضهم البعض، وينفضون التراب عن ملابسهم ، ويتفقدون اصابات أجسادهم
التي كانت طفيفة والحمد لله، وفي الوقت عينه ينظرون بعيون ذاهلة إلى آلاتهم
المسحوقة، وسيارة زميلهم التي مابقى منها سوى هيكلها المحترق !.
كان كل شيء حولهم يثير الانقباض، لكن أحدهم
وضع ذراعيه على كتفي اثنين من زملائه، وقال لهما :
_ لاتقلقا..كل شيء سوف يكون على مايرام !
توقفا عن السير ونظرا إليه نظرتهما إلى معتوه
أو مجنون، ولم تكن نظرة بقية زملائه إليه تختلف في شيء، لكن ابتسامته اتسعت وهو
يعاود النظر إلى القمر، الذي بدأ الدخان ينحسر عن وجهه، فعاد ينشر أشعته الفضية
فوق الطريق السريع، ثم قال لهم :
_ سوف نستأجر آلات أخرى ونقدم فقرتنا في
الحفل !
وبدا كأن روح التفاؤل التي ملأت صوته قد سرت
كالعدوى بينهم، فسرعان ماعلق أحدهم :
_ نعم..لن نترك شيئاَ يمنعنا عن الحفل !
ثم أضاف آخر :
_ بل لن نكتفي بهذا الحفل..سوف نقدم حفلات
كثيرة..وسوف نشتري لزميلنا سيارة جديدة أفضل من هذه !
لكن أحدهم قرر فجأة أن يقطع سلسلة خيالهم
الجامح ويعيدهم إلى أرض الواقع، فقال لهم :
_ وكيف سنعود أساساَ من هنا أيها السادة..إن
أقرب نقطة مأهولة بالسكان ..قد تبعد بضعة كيلومترات !
فنظر إليه أحد زملائه لائماَ، ثم قال مهوناَ
:
_ لا يهم..سوف نسير على أقدامنا..نحن شباب
ونستطيع تحمل المسير الطويل..لن نسمح لشيء أن يعطلنا عن احلامنا ابداَ !
فردوا عليه جميعاَ بصوت واحد، بلهجة منغمة،
كأنهم يقدمون أحد عروضهم الموسيقية :
_ لن يعطلنا شيء..لن يمنعنا شيء..أحلامنا بين
أيدينا..لن يمنعنا عنها شيء !
وساروا يكررون كلمات الأغنية، التي جاءت من
وحي اللحظة..وكل بضع دقائق يضيفون إليها كلمات جديدة وأنغاماَ جديدة ! .
تعليقات
إرسال تعليق