التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مساء صاخب


قصة قصيرة




حسام الدين فكري :
تناهي إلى أذنيه في أعماق الليل صوت سيدة تضرب ابنها الصغير بقسوة بالغة، الصبي يعتذر ويبكي بحرقة، لكنها لا ترحمه وتزداد قسوة عليه، ماهي الجريمة الشنعاء التي يمكن أن يكون قد فعلها من هو في مثل سنه ؟!.. صوته البرىء يأتيه من بعيد، ربما لم يتجاوز السابعة من عمره بعد..لم يكن هو أفضل حالاً في طفولته، كان والده أيضاً يعامله بذات القسوة والاستبداد..هذه "الحيوانات البرية"- في رأيه - لابد من ردعها بسيف القانون، فإن لم تكن ضمائرها الميتة تردعها، فلتقم قوانين الدولة بهذا الدور إذاً..نعم، على الدولة أن تسن من القوانين مايمنع الآباء والأمهات من استباحة أجساد أبنائهم بهذا الشكل المهين..ربما في الغرب نجد مثل هذه القوانين الرادعة، لكننا في عالمنا العربي لا نعرف شيئاً عنها !.
انطلق صوته يشق سكون الليل :
_ ياست إنتي..إرحمي إبنك شوية !
هرولت زوجته نحوه عندما سمعت صياحه، كانت الأسئلة تتراقص في عينيها، أجابها والغضب يملأ صوته :
_ دي بقرة..كانت بترفس ابنها !
فهمت مقصده وضحكت، ثم فوجئا بابنهما الصغير الذي كان نائماً يركض إليهما، بدت معالم الذعر على ملامحه، فحمله على ذراعه وهدأ من روعه، قبل أن تتلقفه منه زوجته وتذهب لتعيده إلى فراشه.
وقف في مكانه محنقاً، فلا يستطيع أن يذهب إلى تلك السيدة حتى ينهرها عن عصفها بابنها، لم يكن يعرفها ولا يحق له التدخل، فاكتفى بالرثاء للصبي المسكين الذي أوقعه حظه العاثر في أم كهذه، وحمد الله تعالى أنها كفت عن ضربه، ربما من "التعب"!..ولم تمض سوى دقائق قلائل حتى ارتفع صوت نسائي يمزق هدوء الليل :
_ الحقووووني !
هذه المرة يعرف هذا الصوت تماماً، إنها جارته في العمارة المجاورة وزوجة صديقه الراحل..وفي الوقت ذاته لمح شقة في البناية ذاتها تشتعل..فلم يعد أمامه مجال للتجاهل..يجب أن يتحرك بسرعة.
ارتدى ملابسه على عجل وانطلق..بسرعة الصاروخ هبط درج البناية التي يقطن فيها ثم صعد درج البناية الأخرى..كانت الشقة المشتعلة في الطابق الثاني وشقة زوجة صديقه في الطابق الرابع..كان يتصور أنه سوف يمر على جمهرة من الناس أمام شقة الطابق الثاني، لكن الدهشة التصقت بملامحه حين لم يجد شيئاً، بل كان باب الشقة مغلقاً وكأن لا شيء يحدث بداخلها !.
تجاوز دهشته وواصل صعوده إلى الطابق الرابع، أمام الشقة المعنية انتابته حيرة شديدة..كان بابها مغلقاً أيضاً، وكأن لاشيء يحدث بداخلها !!.
هنا لم يعرف ماذا يفعل؟!..نظر إلى ساعته فوجدها تشير إلى منتصف الليل تقريباً..هل يطرق باب الشقة في مثل هذا الوقت المتأخر من الليل؟..قرر أن يفعل..دقّ الجرس وانتظر..لم يسمع صوت شيء يتحرك بالداخل..فدقّه مرة أخرى..جاءه صوت السيدة تسأل عمن يكون بالباب فأجابها بصوت يقطر حرجاً..فتحت بابها في تثاقل فابتدرها بالإعتذار وروى لها كيف إنه سمع استغاثتها فأسرع من فوره لنجدتها..كان حديثه يبدو عبثياً بالطبع، فهاهي أمامه بكامل عافيتها ولا تشكو من شيء..كرر اعتذاره وانصرف .
فيما كان يهبط نحو الطابق الثاني إلى الشقة المشتعلة، أخذت الأفكار تتداخل في رأسه من خشيته أن يتكرر الأمر ذاته، لكنه حسم أمره بأن يطرق باب الشقة حتى يطمئن..وبالفعل، ذات المشهد يتكرر من جديد، ثم ينتهى بالاعتذار بحروف يملأها الحرج !.
و...انتبه على يد تهزه برفق...
_ إنت نمت ولا إيه..شكلك كنت بتحلم حلم عجيب كمان !
كان زميله في العمل، وكانا في الباص بعد أن أمضيا يوم عمل شاق..أجابه بكلمات متقطعة :
_ أيوه..عندك حق..كان حلم عجيب جداً!
من باب تمضية الوقت، راح يقص عليه مارأى في منامه..فأخذ زميله يفسر تلك الأحداث الصاخبة بأنها من تأثير إجهاده في العمل لا أكثر.
عاد إلى منزله لا يكاد يشعر بعظامه، كان في غاية الانهاك بالفعل..تناول غدائه وبقي نحو ساعتين يلاعب ابنه الحبيب..ثم أسلم جسده إلى الفراش حتى الصباح.
ما أن استيقظ وغسل وجهه، حتى ابتدرته زوجته :
_ ماعرفتش إيه اللي حصل بالليل وانت نايم ؟!
التفت إليها بوجه مطلي بالفضول..فروت له أن الأمر بدأ بصوت سيدة قاسية تنهال ضرباً على ابنها الصغير، ثم شق الفضاء صوت سيدة أخرى تستغيث، تلته ثلاث رصاصات اخترقت الآذان، وتبين بعد ذلك أن السيدة تعرضت لاقتحام منزلها في جوف الليل فالتقطت بسرعة سلاح زوجها المرخص وأردت المقتحم قتيلاً..وبعد دقائق قليلة تصاعدت ألسنة النيران من إحدى شقق البناية ذاتها بفعل ماس كهربائي !.
تحول إلى تمثال صامت..ولم يجد لسانه؛ ليعلق على حديث زوجته بشيء !!.
  


 
 
  


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

زهور المبدعين (1)

(تعليقات السادة المُبدعين..على أعمال حسام الدين) حسام الدين فكري   مُنذ نحو عام، بدأتُ في نشر عدد من القصص القصيرة والقصائد النثرية، في بعض الصفحات الأدبية المتخصصة على الفيسبوك . وكلما نشرت شيئاً منها، كلما تلقيت طائفة من تعليقات السادة المبدعين الأفاضل (الأدباء والشعراء)، من سكان هذه الصفحات الأدبية..ومنها تعليقات غاية في الروعة والجمال، تفيض إطراءاً وثناءاً بلغة أدبية راقية، لم أستطع مقاومة فكرة نسخها والاحتفاظ بها . وأود هنا أن أشرككم معي في تنسم عبير هذه التعليقات ذات الأريج العطر . وسوف تلاحظون أن بعض الأسماء تتكرر أحياناً، وذلك نظراً لتكرار نشر العديد من أعمالي من خلال الصفحات الأدبية ذاتها . والآن إلى هذه المجموعة الأولى من (زهور) السادة المبدعين..وسوف أوالي نشر كل مايستجد منها بإذن الله .        تعليقات على قصيدة (شجرة الإنسان) ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ     الله الله روعة واكثر يسلم همسك ونبض قلبك ودام حرفك Nagwa Mohamed في (مجلة همس الروح)     بوركت وبورك قلمك ال...

"ابن المحظوظة" الذي خطف تأشيرة الخروج !

حسام الدين فكري... استمتعت للغاية – مثل ملايين المصريين – بمشاهدة هذا الفيلم العربي القديم الذي عرضته علينا قنوات الأخبار بعنوان "اختطاف الطائرة المصرية"..رغم أن لدي ملاحظات عديدة على السيناريو والديكور والإضاءة وزوايا التصوير!..والأهم من هذا كله أن "الحبكة الدرامية" لم تدخل دماغي أساساً..ولا أظنها دخلت دماغ أي عيل في مصر..فلو أردت أن تلعبها صح مع جيل اللابتوب والآي باد، كان عليك أن تستعين بفريق متخصص في "الأنيميشن"..إنما أن تقدم فيلم جرافيك بهذه الطريقة الرديئة جداً..فبصراحة بقى : مايصحش كده !! . ويقولك إيه : أصل الخاطف كان عايز يقابل طليقته في قبرص !..يعني من قبيل اللمسة العاطفية..وواحد آخر يقول : ده مخطط لضرب السياحة في مصر !..يعني من قبيل النظرة المؤامرتية !..وواحد ثالث قال : من الآخر هو كان هدفه "يهج" من مصر !..وهذا هو الوحيد الذي أصاب كبد الحقيقة ! . وبالطبع لم أندهش ثانية واحدة عندما وجدت مواقع التواصل الإجتماعي تنفجر بآلاف التعليقات التي تغبط ركاب الطائرة على اختطافهم ووصولهم إلى قبرص..يعني النجاة من الحياة في مصر !..ولم أ...

ليل مُعبقّ برائحة الفناء

قصة : حسام الدين فكري قريتنا لا تشبه غيرها من القرى، فالليل فيها له أنياب تسيل منها الحياة، والتوجّس يأكل عظام كل من يسير ليلاً بعد أذان العشاء..خمس ليالٍ متوالية شق فيها قلب السكون صياح النادبات، كل الذاهبين اختطفهم الموت في قلب الليل، لاشيء يربط بينهم إلا التجول تحت أستار الظلام، الموت يترصد في كل زوايا القرية، لم يفلت منه أحد، حتى الذين ساروا معاً في مجموعات، فوجئوا بسقوط أحدهم صريعا من بينهم..يأتي طبيب القرية مهرولاً ثم يجده قد فارق الحياة، فيشخص حالته "هبوط حاد مفاجئ في الدورة الدموية"، نسأله عن السبب فيقول إنها إرادة الله "عمره كده"، ونعم بالله، لكننا لم نفهم شيئاً..فمنهم من كان شابا يافعا في الثلاثين من عمره بالكاد، كانت الصحة تنضح على وجهه وجسده الرياضي، لا يدخن ولايشرب الخمر، فما الذي يجعل شابا كهذا يسقط فجاة بلا حراك؟..يحاول الطبيب أن يبل ريقنا بشيء، فيقول لنا :"ربما تعرّض لإنفعال مفاجيء"، نعود لنسأل صديقه الوحيد الذي كان يرافقه، فيؤكد لنا أنهما كانا يتسامران ويضحكان، لم يغضبه شيء ولم ينفعل لشيء، كانت كلماته الأخيرة مفعمة بحب الحياة، تحدث عن خط...