قصة : حسام الدين فكري...(هذه القصة تعتمد على حكاية حقيقية، نشرتها الصحف المصرية في مطلع الثمانينات من القرن الماضي) .
- ياللا يا نهى..الحفلة قربت تبدأ .
كانت تجلس على طرف فراشها، وقد تزينت وارتدت ملابسها القصيرة، التي تكشف أكثر مما تُخفي .
قبل دقائق قليلة، كان شلال الذكريات يغمرها تماماً، وانهمرت أمواج صاخبة جنحت بها في كل اتجاه..حتى جاء هذا الصوت ليقطع تواتر المشاهد المتداخلة، كخيالات لا تظهر ملامحها جلية، لكنها تعرف شخوصها جيداً .
- أيوه يا رباب..أنا جاهزة .
ردت عليها بتثاقل من يفعل ما اعتاد عليه بروتينية بحتة، دون أن يستمتع بلحظات الفعل، ولا يبهجه الجو الذي تدور فيه أحداث حياته .
كانت ذاكرتها تعود بها إلى خمس سنوات مضت، يومها لم يكن على وجه الأرض أسعد منها، عندما بدأت حياتها الجامعية في كلية الإعلام بالقاهرة، التي طالما تطلعت إليها .
والدها الريفي البسيط لم يتحمس لفكرة التحاقها بالمدينة الجامعية وحدها، كانت قريته بالشرقية تمثل أقصى حدود معرفته في الدنيا، وكان يتصور دائماً القاهرة مدينة كبيرة جائعة تبتلع البشر، فكل الذين يعرفهم ممن ذهبوا إليها، ابتلعتهم فلم يعودوا أبداً إلى القرية ! .
أما والدتها – وابحث عن الأم في كل شيء ! – فقد استطاعت إقناعه بأن شقيقتها المقيمة بالقاهرة، سوف ترعى ابنتها وتضع عينها عليها..فوافق على مضض، وقلبه يفيض بتقلصات حادة تنذر بالخطر .
ومن أول لحظة، أدركت "نهى" الفارق الهائل بين حياة الريف الهادئة، وحياة المدينة الصاخبة..فالقاهرة لا تنام، وكل الأعين تندب فيها رصاصة..خاصة مع فتاة تتمتع بجمال ملحوظ مثلها..فقامتها الطويلة، وقدها الممشوق، وعينيها الواسعتين، وأنفها الدقيق، وبشرتها ناصعة البياض، وشعرها البني الذي ينسدل ناعماً على كتفيها..كانت كل هذه "المؤهلات" تجذب العيون من حولها طوال الوقت ! .
وعزمت "نهى" في البداية على التركيز في دراستها، فوضعت حاجزاً غير مرئي بينها وبين زملائها، وأوصدت الباب أمام رغبات كل زملائها الشباب في التعرف عليها..وانغلقت على نفسها تماماً، وطوت دفتي قلبها فلم يتسلل إليه أحد ! .
وجذب انطواؤها الزائد نظر طالبة في الفرقة الثالثة..كانت على النقيض تماماً..متحررة إلى أقصى حد..يعربد العبث على ملامح وجهها وينضح على لسانها..يتطاير شعرها الغجري بلا قيود..وتلتصق ملابسها بجسدها حتى تضغط على مفاتنها بقوة، فتجعلها ظاهرة للجميع..لكن "المبالاة" كانت آخر ما يمكن أن توصف به !..فهي تفعل ما تريد..وقتما تريد..في أي مكان يحلو لها..كأنما تضع قوانينها الخاصة، ولا تهتم بأي قوانين يضعها الآخرون !! .
كانت هذه هي "رباب"..التي دخلت حياة "نهى"..فانقلبت رأساً على عقب ! .
هذه المرة أهملت الرد عليها تماماً..واصلت تجميع أطراف ثوب ذكرياتها الذي غمره الضباب..كانت تجد شيئاً من "المتعة" الغريبة في استعادة ما كان..بعضاً من "جلد الذات" يحيى موات خلايا الروح الضالة !..كأنها نقرات على باب "الفضيلة" الذي وضعت عليه الشمع الأحمر منذ سنوات ! .
هذه الأفعى "رباب" دخلت كهفها واقتنصت فريستها..لكنها هي التي استجابت لغوايتها الناعمة . كانت تجلس برفقة بعض زميلاتها في كافيتريا الكلية، عندما اقتحمت "رباب" الجلسة..جاءت بصخبها المعتاد وراحت تطلق القفشات على أساتذة الكلية..وشيئاً فشيئاً تسربت زميلات "نهى" واحدة تلو الأخرى..فوجدت المجال متاحاً لأن تجلس بجوارها :
- أنا سمعت إنك من الشرقية..أنا بقى من المنصورة ! .
كان تعارفاً عادياً مع زميلة من كليتها..لكنها كانت "نقطة التحول" التي غيرت حياتها تماماً ! .
في اليوم التالي رأتها، فجلست معها في الكافيتريا وأصرت على دفع حسابهما معاً . وفي اليوم الذي يليه صحبتها إلى كافيه قريب من الجامعة، ثم دفعت حسابهما معاً . كانت "نهى" تعترض، وترغب في دفع حسابها على الأقل، فكانت الأخرى تقول مهونة " كبَّري دماغك..دي حاجة بسيطة" ! .
وعلى مدى أسبوع كامل صار روتينهما اليومي "التزويغ" من بعض المحاضرات وقضاء الوقت في الكافيه . وتعلقت نهى برباب.. وجدت فيها رائحة الحياة التي لا تعرفها، واكتشفت على يديها ما لم تسمع عنه من قبل ! .
وفجأة، اختفت رباب، فلا هي تأتي إلى الكلية..ولا حتى تتصل بصديقتها، التي صارت كالمدمن الذي "تطلب معه" المخدرات !..عقلها يأكلها ويعبث بها..وكل يوم تبحث عنها وتتحرق شوقاً لرؤيتها أو سماع صوتها..لكن "رباب" أغلقت هاتفها..وحاولت أن تسأل عنها بعض زميلاتها، فلم تجد واحدة منهن تعرف عنها شيئاً ! .
ثم ظهرت "رباب" بعد بضعة أيام !..قالت لها ببساطة إنها كانت مسافرة إلى شرم الشيخ برفقة بعض أصدقائها..ولم تفهم "نهى" معنى "بعض أصدقائها" هذه، إلا عندما أصبحت بعد ذلك مثلها ! .
ويبدو أن "رباب" قررت أن تفتح عيني صديقتها الجديدة على اتساعهما..فصارت تصحبها معها إلى المولات ودور السينما وصالات الديسكو..وهي دائماً التي تدفع كل شيء ولا تترك لها مجالاً للإعتراض..حتى ملابسها التي تسهر بها معها، هي التي تشتريها لها..وشيئاً فشيئاً تزداد الملابس قصراً وشفافية..حتى تلائم الجو الصاخب المحيط بهما ! .
وكانت "نهى" تتساءل دائماً عن مصدر تلك الأموال الطائلة التي تبعثرها "رباب" في تلك السهرات..لكن رباب لم تصرح بشيء..كانت تكتفي برد مقتضب : "أهو..بتصرف" !..ولم تفهم "نهى" من أي طريق تتصرف "رباب"، التي جاءت إلى القاهرة ريفية مثلها، فإذا بها وقد تحولت هذا التحول الكامل في سنوات قليلة، واستقلت بحياتها تماماً ! .
وفجأة أيضاً اختفت "رباب"، وطالت مدة اختفائها هذه المرة..و "نهى" تتقلب على جمر مشتعل، فلا واحدة يمكنها أن تصخب معها، مثلما تفعل مع "رباب"..لقد سيطر عليها الإدمان وتعمق في أغوار نفسها السحيقة..بينما "رباب" في مكان بعيد..تنتظر أن تنضج فريستها على نار هادئة ! .
وعادت "رباب" بمفاتيح المعبد المسحور !..فصحبت "نهى" إلى أحد الفنادق، وجلست معها في بهو الفندق تقول لها :
- عايزة تعرفي الفلوس اللي معايا دي كلها..جايباها منين ؟! .
- بصراحة أيوه .
- من هنا !..من جيوب الناس اللي فوق ! .
... وأفاضت "رباب" في شرح التفاصيل الساخنة ..تحدثت بلا حرج..بلا مواربة..بلا حياء..خلعت ورقة التوت أمام "نهى"..التي قررت في النهاية، أن تتخلى عن ورقة التوت مثل صديقتها..وبدأت أولى خطواتها على طريق الشوك..الذي بدا لها وقتها..طريق الحرير ! .
ورأت بعين خيالها ميزاناً مُعلقاً في الهواء..وقد وُضعت على إحدى كفتيه صرة مكتوب عليها "المال"..وعلى الكفة الأخرى صرة مكتوب عليها "الشرف"..وانطلقت ضحكة عابثة في الفضاء، تردد صداها في كل الأنحاء..ثم سقطت صرة "المال" بدويّ هائل، اهتزت له الأرض تحت قدميها..بينما تطايرت صرة "الشرف" في الهواء..وتناثرت إلى ذرات !! .
وبدا الطريق محتوماً !..لا مفر من السير فيه..وها هي تضع قدمها في ثبات..لا يهتز لها رمش..فقد اتخذت قرارها ورسمت ملامح حياتها القادمة في لحظة واحدة..كانت كالظمآن الذي وجد بئراً في الصحراء..فألقى فيها بنفسه دون أن يخشى الغرق ! .
وفي تلك اللحظة التي انحفرت في ذاكرتها بعد ذلك بنصل حاد، كان الشيطان يغني أروع أغانيه..عندما أعلنت لرباب عن عزمها على تناول التفاحة المحرمة..فابتسمت "رباب" ابتسامة "الفاتح" الذي دك حصون المدينة أخيراً، بعد أن حاصرها طويلاً ! . وفي دقائق قليلة انشقت الأرض عن شاب ثري..صحبها في هدوء إلى غرفته بالفندق..وتحت إضاءة خافتة قاتمة..سالت روحها على فراشه الوثير !! .
ودائماً ما تكون اللحظات الأولى في كل شيء هي الأصعب..لكن الباب إذا انفتح، أصبح المرور منه أكثر يسراً بعد ذلك ! . هكذا كان شأنها..فما أن تجاوزت دهشة الاكتشاف المثير، حتى تحول الأمر بمرور الوقت إلى "لعبة" فقدت بريقها..فأصبحت تمارسها بلا استمتاع..لكنها تجني منها مالاً طائلاً ! .
وانتقلت "نهى" للإقامة مع "رباب" في شقتها..وتركت لها نفسها تماماً، تقودها كيفما تريد..فصارت عينها التي ترى لها..وأنفها الذي يتشمم مواقع حفلات وسهرات أولاد الذوات..ورأسها الذي يدبر ويخطط وينظم علاقاتها العديدة، التي تشابكت وتداخلت حتى صارت كشبكة عنكبوت ضخمة، أحاطت بحشرة واهنة..فأغلقت دونها كل منافذ الهروب !! .
- مش معقول كده يا نهى..كل ده بتعملي إيه ؟! .
وجاءت "رباب" تتفقدها، فوجدتها تقف أمام المرآة، تضع اللمسات الأخيرة لماكياجها الفج..وألقت "نهى" على نفسها نظرة ساخرة سريعة..ثم تحركت مع قائدتها الأفعى..إلى جولة جديدة من جولات الحياة العابثة..التي أصبحت أسيرة لها ! .
- ياللا يا نهى..الحفلة قربت تبدأ .
كانت تجلس على طرف فراشها، وقد تزينت وارتدت ملابسها القصيرة، التي تكشف أكثر مما تُخفي .
قبل دقائق قليلة، كان شلال الذكريات يغمرها تماماً، وانهمرت أمواج صاخبة جنحت بها في كل اتجاه..حتى جاء هذا الصوت ليقطع تواتر المشاهد المتداخلة، كخيالات لا تظهر ملامحها جلية، لكنها تعرف شخوصها جيداً .
- أيوه يا رباب..أنا جاهزة .
ردت عليها بتثاقل من يفعل ما اعتاد عليه بروتينية بحتة، دون أن يستمتع بلحظات الفعل، ولا يبهجه الجو الذي تدور فيه أحداث حياته .
كانت ذاكرتها تعود بها إلى خمس سنوات مضت، يومها لم يكن على وجه الأرض أسعد منها، عندما بدأت حياتها الجامعية في كلية الإعلام بالقاهرة، التي طالما تطلعت إليها .
والدها الريفي البسيط لم يتحمس لفكرة التحاقها بالمدينة الجامعية وحدها، كانت قريته بالشرقية تمثل أقصى حدود معرفته في الدنيا، وكان يتصور دائماً القاهرة مدينة كبيرة جائعة تبتلع البشر، فكل الذين يعرفهم ممن ذهبوا إليها، ابتلعتهم فلم يعودوا أبداً إلى القرية ! .
أما والدتها – وابحث عن الأم في كل شيء ! – فقد استطاعت إقناعه بأن شقيقتها المقيمة بالقاهرة، سوف ترعى ابنتها وتضع عينها عليها..فوافق على مضض، وقلبه يفيض بتقلصات حادة تنذر بالخطر .
ومن أول لحظة، أدركت "نهى" الفارق الهائل بين حياة الريف الهادئة، وحياة المدينة الصاخبة..فالقاهرة لا تنام، وكل الأعين تندب فيها رصاصة..خاصة مع فتاة تتمتع بجمال ملحوظ مثلها..فقامتها الطويلة، وقدها الممشوق، وعينيها الواسعتين، وأنفها الدقيق، وبشرتها ناصعة البياض، وشعرها البني الذي ينسدل ناعماً على كتفيها..كانت كل هذه "المؤهلات" تجذب العيون من حولها طوال الوقت ! .
وعزمت "نهى" في البداية على التركيز في دراستها، فوضعت حاجزاً غير مرئي بينها وبين زملائها، وأوصدت الباب أمام رغبات كل زملائها الشباب في التعرف عليها..وانغلقت على نفسها تماماً، وطوت دفتي قلبها فلم يتسلل إليه أحد ! .
وجذب انطواؤها الزائد نظر طالبة في الفرقة الثالثة..كانت على النقيض تماماً..متحررة إلى أقصى حد..يعربد العبث على ملامح وجهها وينضح على لسانها..يتطاير شعرها الغجري بلا قيود..وتلتصق ملابسها بجسدها حتى تضغط على مفاتنها بقوة، فتجعلها ظاهرة للجميع..لكن "المبالاة" كانت آخر ما يمكن أن توصف به !..فهي تفعل ما تريد..وقتما تريد..في أي مكان يحلو لها..كأنما تضع قوانينها الخاصة، ولا تهتم بأي قوانين يضعها الآخرون !! .
كانت هذه هي "رباب"..التي دخلت حياة "نهى"..فانقلبت رأساً على عقب ! .
***
- يا نهى ياللا..اتحركي بأه ! .هذه المرة أهملت الرد عليها تماماً..واصلت تجميع أطراف ثوب ذكرياتها الذي غمره الضباب..كانت تجد شيئاً من "المتعة" الغريبة في استعادة ما كان..بعضاً من "جلد الذات" يحيى موات خلايا الروح الضالة !..كأنها نقرات على باب "الفضيلة" الذي وضعت عليه الشمع الأحمر منذ سنوات ! .
هذه الأفعى "رباب" دخلت كهفها واقتنصت فريستها..لكنها هي التي استجابت لغوايتها الناعمة . كانت تجلس برفقة بعض زميلاتها في كافيتريا الكلية، عندما اقتحمت "رباب" الجلسة..جاءت بصخبها المعتاد وراحت تطلق القفشات على أساتذة الكلية..وشيئاً فشيئاً تسربت زميلات "نهى" واحدة تلو الأخرى..فوجدت المجال متاحاً لأن تجلس بجوارها :
- أنا سمعت إنك من الشرقية..أنا بقى من المنصورة ! .
كان تعارفاً عادياً مع زميلة من كليتها..لكنها كانت "نقطة التحول" التي غيرت حياتها تماماً ! .
في اليوم التالي رأتها، فجلست معها في الكافيتريا وأصرت على دفع حسابهما معاً . وفي اليوم الذي يليه صحبتها إلى كافيه قريب من الجامعة، ثم دفعت حسابهما معاً . كانت "نهى" تعترض، وترغب في دفع حسابها على الأقل، فكانت الأخرى تقول مهونة " كبَّري دماغك..دي حاجة بسيطة" ! .
وعلى مدى أسبوع كامل صار روتينهما اليومي "التزويغ" من بعض المحاضرات وقضاء الوقت في الكافيه . وتعلقت نهى برباب.. وجدت فيها رائحة الحياة التي لا تعرفها، واكتشفت على يديها ما لم تسمع عنه من قبل ! .
وفجأة، اختفت رباب، فلا هي تأتي إلى الكلية..ولا حتى تتصل بصديقتها، التي صارت كالمدمن الذي "تطلب معه" المخدرات !..عقلها يأكلها ويعبث بها..وكل يوم تبحث عنها وتتحرق شوقاً لرؤيتها أو سماع صوتها..لكن "رباب" أغلقت هاتفها..وحاولت أن تسأل عنها بعض زميلاتها، فلم تجد واحدة منهن تعرف عنها شيئاً ! .
ثم ظهرت "رباب" بعد بضعة أيام !..قالت لها ببساطة إنها كانت مسافرة إلى شرم الشيخ برفقة بعض أصدقائها..ولم تفهم "نهى" معنى "بعض أصدقائها" هذه، إلا عندما أصبحت بعد ذلك مثلها ! .
ويبدو أن "رباب" قررت أن تفتح عيني صديقتها الجديدة على اتساعهما..فصارت تصحبها معها إلى المولات ودور السينما وصالات الديسكو..وهي دائماً التي تدفع كل شيء ولا تترك لها مجالاً للإعتراض..حتى ملابسها التي تسهر بها معها، هي التي تشتريها لها..وشيئاً فشيئاً تزداد الملابس قصراً وشفافية..حتى تلائم الجو الصاخب المحيط بهما ! .
وكانت "نهى" تتساءل دائماً عن مصدر تلك الأموال الطائلة التي تبعثرها "رباب" في تلك السهرات..لكن رباب لم تصرح بشيء..كانت تكتفي برد مقتضب : "أهو..بتصرف" !..ولم تفهم "نهى" من أي طريق تتصرف "رباب"، التي جاءت إلى القاهرة ريفية مثلها، فإذا بها وقد تحولت هذا التحول الكامل في سنوات قليلة، واستقلت بحياتها تماماً ! .
وفجأة أيضاً اختفت "رباب"، وطالت مدة اختفائها هذه المرة..و "نهى" تتقلب على جمر مشتعل، فلا واحدة يمكنها أن تصخب معها، مثلما تفعل مع "رباب"..لقد سيطر عليها الإدمان وتعمق في أغوار نفسها السحيقة..بينما "رباب" في مكان بعيد..تنتظر أن تنضج فريستها على نار هادئة ! .
وعادت "رباب" بمفاتيح المعبد المسحور !..فصحبت "نهى" إلى أحد الفنادق، وجلست معها في بهو الفندق تقول لها :
- عايزة تعرفي الفلوس اللي معايا دي كلها..جايباها منين ؟! .
- بصراحة أيوه .
- من هنا !..من جيوب الناس اللي فوق ! .
... وأفاضت "رباب" في شرح التفاصيل الساخنة ..تحدثت بلا حرج..بلا مواربة..بلا حياء..خلعت ورقة التوت أمام "نهى"..التي قررت في النهاية، أن تتخلى عن ورقة التوت مثل صديقتها..وبدأت أولى خطواتها على طريق الشوك..الذي بدا لها وقتها..طريق الحرير ! .
***
وفهمت "نهى" !..رأت الحقيقة عارية بلا رتوش..وأدركت أن هذه النقود تأتي
من مصاحبة الأثرياء..بضع ساعات تقضيها في المتعة الحمراء..وتحصل بعدها على
مبلغ كبير، يعمل كثير من الناس طوال الشهر كي يحصلوا عليه !..ثم لا أحد
يجبرها على شيء..هي تختار بذاتها ما تريد..لكن هذا الطريق يقفز بها فوق
تلال المال..ويضعها فوق وسائد الحرير..أما طريق "الشرف" فيجعلها مقيدة
بالجنيهات القليلة التي يرسلها لها والدها..فكيف إذاً تشتري تلك الملابس
وأدوات التجميل التي تبهرها..وتسهر في أرقى الأماكن التي اعتادت أن ترتادها
مع "رباب" ؟!.ورأت بعين خيالها ميزاناً مُعلقاً في الهواء..وقد وُضعت على إحدى كفتيه صرة مكتوب عليها "المال"..وعلى الكفة الأخرى صرة مكتوب عليها "الشرف"..وانطلقت ضحكة عابثة في الفضاء، تردد صداها في كل الأنحاء..ثم سقطت صرة "المال" بدويّ هائل، اهتزت له الأرض تحت قدميها..بينما تطايرت صرة "الشرف" في الهواء..وتناثرت إلى ذرات !! .
وبدا الطريق محتوماً !..لا مفر من السير فيه..وها هي تضع قدمها في ثبات..لا يهتز لها رمش..فقد اتخذت قرارها ورسمت ملامح حياتها القادمة في لحظة واحدة..كانت كالظمآن الذي وجد بئراً في الصحراء..فألقى فيها بنفسه دون أن يخشى الغرق ! .
وفي تلك اللحظة التي انحفرت في ذاكرتها بعد ذلك بنصل حاد، كان الشيطان يغني أروع أغانيه..عندما أعلنت لرباب عن عزمها على تناول التفاحة المحرمة..فابتسمت "رباب" ابتسامة "الفاتح" الذي دك حصون المدينة أخيراً، بعد أن حاصرها طويلاً ! . وفي دقائق قليلة انشقت الأرض عن شاب ثري..صحبها في هدوء إلى غرفته بالفندق..وتحت إضاءة خافتة قاتمة..سالت روحها على فراشه الوثير !! .
ودائماً ما تكون اللحظات الأولى في كل شيء هي الأصعب..لكن الباب إذا انفتح، أصبح المرور منه أكثر يسراً بعد ذلك ! . هكذا كان شأنها..فما أن تجاوزت دهشة الاكتشاف المثير، حتى تحول الأمر بمرور الوقت إلى "لعبة" فقدت بريقها..فأصبحت تمارسها بلا استمتاع..لكنها تجني منها مالاً طائلاً ! .
وانتقلت "نهى" للإقامة مع "رباب" في شقتها..وتركت لها نفسها تماماً، تقودها كيفما تريد..فصارت عينها التي ترى لها..وأنفها الذي يتشمم مواقع حفلات وسهرات أولاد الذوات..ورأسها الذي يدبر ويخطط وينظم علاقاتها العديدة، التي تشابكت وتداخلت حتى صارت كشبكة عنكبوت ضخمة، أحاطت بحشرة واهنة..فأغلقت دونها كل منافذ الهروب !! .
- مش معقول كده يا نهى..كل ده بتعملي إيه ؟! .
وجاءت "رباب" تتفقدها، فوجدتها تقف أمام المرآة، تضع اللمسات الأخيرة لماكياجها الفج..وألقت "نهى" على نفسها نظرة ساخرة سريعة..ثم تحركت مع قائدتها الأفعى..إلى جولة جديدة من جولات الحياة العابثة..التي أصبحت أسيرة لها ! .
تعليقات
إرسال تعليق